17 أيار 2024
تُعدّ قضية الاعتقال والاختفاء القسري في سوريا من أكثر القضايا الإنسانية مأساوية، ولا حل عادلاً ومستداماً من دون إغلاق هذا الملف والوصول إلى حل جذري أساسه إطلاق سراح المعتقلين، والكشف عن مصير المختفين قسرياً بشكل فوري ومن دون شروط.
شكّل الإفراج عن المعتقلين والكشف عن المفقودين جزءاً أساسياً من جميع القرارات والبيانات الدولية، بما فيها القرار 2254، وطالبت الوثائق الدولية التي لها علاقة بالقضية السورية، ومعظم قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، بالإفراج الفوري عن جميع المعتقلين والمختفين وخاصة النساء والأطفال، حيث تُشكّل هذه القضية أساس لبناء الثقة ودليل على وجود إرادة حقيقية للمضي نحو الحل الشامل.
تعتبر هيئة التفاوض السورية قضية الاعتقال والاختفاء القسري أولوية بالنسبة لها، ولا تربط هذه القضية بالتطورات في العملية السياسية، وترفض اعتبارها ورقة تفاوضية يتم المساومة عليها.
وصفت قرارات مجلس الأمن مع ما جاء في معظم التقارير الأممية، كبيان جنيف 1 لعام 2012، وبيانات المجموعة الدولية لدعم سوريا (بيانا فيينا)، وتقارير الأمين العام للأمم المتحدة، ما يحدث في سوريا بأنه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ولخّص تقرير اللجنة الدولية المستقلة 2021 الممارسات السائدة في السجون والاحتجاز التعسفي لدى النظام السوري في الفترة الممتدة من آذار 2011 حتى كانون الأول 2020، وتضمن التقرير بشكل أساسي توثيق حالات الاختفاء القسري والاحتجاز، مع العزل والتعذيب والمعاملة اللاإنسانية والمهينة والعنف الجنسي والعنف المبني على النوع الاجتماعي واستخدامه كسلاح حرب، والقتل تحت التعذيب والإعدامات الميدانية.
في هذا السياق، تواجه المعتقلات من النساء السوريات معاناة مضاعفة لما يواجهه المعتقلون من الرجال، إذ يعانين من جرائم تتعلق بالعنف الجنسي المرعبة، والتي تهدف بالدرجة الأولى إلى كسر وتحطيم إرادتهن وإنزال العقاب بهن وبأسرهن بالدرجة الثانية، وتجربة الاعتقال في حياة المرأة تؤثر عليها ضمن فترة الاعتقال، وكذلك بعد الإفراج عنها، بسبب ما تتعرض له من وصمة العار ضمن الثقافة الاجتماعية السائدة، وهذا أمر يجعلها تعيش في وضع يتسم بالتمييز والإقصاء في المجتمع ككل، وحتى ضمن أسرتها، وهذه المعاناة تتسبب للمرأة المعتقلة سابقاً بحالة إذلال عميقة وطويلة المدى، بل وحتى أسرتها قد تعاني من حالة تمييز مجتمعي، وقد تتعرض المعتقلات بعد الإفراج عنهم إلى القتل من قبل أسرهن بسبب “وصمة العار” هذه.
من جهة أخرى، يستخدم اعتقال النساء في بعض الأحيان كتكتيك من أجل ممارسة ضغط نفسي واجتماعي شديد على المقاتلين من الطرف الآخر، وذلك لأن الثقافة الاجتماعية السائدة تعتبر أن الشرف يرتبط بأجساد النساء. لذلك فإن عملية اعتقال النساء تدخل في إطار إيقاع المزيد من الإذلال والأذى النفسي بالطرف الآخر، والعمل على ابتزازه بشكل أكبر، وهذه أحد جوانب معاناة المرأة السورية التي تعامل في هذا الجانب معاملة لا إنسانية.
بناء على هذه التوصيفات، باتت منهجية النظام السوري في تعامله مع قضية المعتقلين، والمختفين قسراً، انتهاكاً للقانون الدولي لحقوق الإنسان، وجريمة ضد الإنسانية، كآلية ممنهجة وواسعة النطاق، كما أنها شكّلت انتهاكاً للقانون الدولي الإنساني، ولا سيما المادة الثالثة المشتركة لاتفاقيات جنيف، وتُعدّ جريمة حرب حسب نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية، خاصة فيما يتعلق بطرق الاحتجاز، والعزل والتعذيب والمعاملة اللاإنسانية والمهينة والعنف الجنسي، والقتل تحت التعذيب، إضافةً إلى أنها تُشكل انتهاكاً صارخاً لالتزامات الدولة السورية، بموجب الاتفاقيات التي صادقت عليها، وخاصة العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، واتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية المهينة.
يتحمّل النظام السوري المسؤولية الأساسية في ملف الاعتقال والاختفاء القسري، والجرائم الجسيمة المرتبطة بهذا الملف في سوريا، وحسب آخر تقرير شامل لـ “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فإن عدد من لا يزال قيد الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري هو 155604 أشخاص بينهم 10176 امرأة، منذ 2011 وحتى شهر آب/ أغسطس 2023، وهذه الأرقام تشمل جميع أطراف الصراع السوري، مع الأخذ بعين الاعتبار أن النظام له الحصة الأكبر، حيث يبلغ عدد المعتقلين في سجونه 135638، وعدد المعتقلات 8478 امرأة.
نظراً للأولوية القصوى لقضية الاعتقال والاختفاء القسري بالنسبة لهيئة التفاوض السورية، فقد أسّست لجنة للمعتقلين والمفقودين منذ عام 2016، تنطلق من أولوية قضية المعتقلين والمختفين قسراً، وصولاً إلى تحقيق المساءلة والمحاسبة لكل من ارتكب الانتهاكات بحق السوريين، وضمان عدم الإفلات من العقاب.
تعمل لجنة المعتقلين والمفقودين على تلازم جميع المسارات السورية المدنية والحقوقية والمبادرات المحلية وروابط الضحايا، وتستند وتبني عليها من خلال عملية المشاورات المستمرة مع مختلف المنظمات والشبكات السورية، لضمان مشاركة فعّالة من جميع الأطراف السورية، وربطها بالمسار الدولي.
كما تقوم اللجنة بفعاليات على هامش مجلس حقوق الإنسان وفي الأمم المتحدة ومجلس الأمن، فعلى سبيل المثال ضمن هذا السياق، ولدعم تشكيل المؤسسة الدولية لشؤون المفقودين، أجرت اللجنة جلسة في مجلس الأمن بصيغة “آريا” بتاريخ 4/6/2022، يُضاف ذلك إلى جهود اللجنة في عملها لبناء الملفات المرتبطة بقضية الاعتقال والاخفاء القسري في الإطار التقني في البنية الدستورية والتشريعية المتعلقة بهذه القضية.
لم يتم إحراز أي تقدم في هذا الملف منذ “بيان جنيف” وما تبعه من وثائق أممية تتعلق بملف الاعتقال والاختفاء القسري، وعجز المجتمع الدولي والمنظمات الدولية، وخاصة اللجنة الدولية للصليب الأحمر، واللجنة الدولية لشؤون المفقودين، من الوصول إلى مراكز الاحتجاز والاعتقال لدى النظام السوري، أو المساهمة في إطلاق سراح المعتقلين ومعرفة مصير المختفين قسرياً، لأن المسألة تتعلق بوجود إرادة دولية.
مع غياب هذه الإرادة، تستمر هيئة التفاوض السورية في سعيها لإبراز قضية المعتقلين والمختفين قسرياً كأولوية بغض النظر عن الكيفية التي تتطور فيها العملية السياسية، فالقضية فوق تفاوضية، والهيئة تحاول الضغط لجعل القضية السورية قضية مطروحة على الطاولة الدولية والأممية، وعلى رأس كل القضايا قضية المعتقلين والمختفين قسرياً لما تشكّله من قضية حقوق إنسان جوهرية.
(*) ملاحظة: أينما ورد في النص كلمة “المعتقلين” فهي تشمل “المعتقلات والمعتقلين”. وأينما وردت كلمة “المختفين” كذلك تشمل “المخفيات والمختفين”.
جميع الحقوق محفوظة © 2024 هيئة التفاوض لقوى الثورة والمعارضة السورية